يعد التعاقد من الباطن حاليا من أبرز العقود التي تنعقد بهدف تنفيذ أعمال المقاولة، كما أن عقد المقاولة هو عقد يلتزم بمقتضاه المقاول بإتمام عمل معين لصاحب العمل، مقابل بدل أجر، ومع تطور أعمال المقاولة وتنوعها، أصبحت قدرة المقاول على إنجاز الأعمال وحده دون الإستعانة بأية مساعدة من الغير شبه مستحيلة، بإستثناء بعض أنواع المقاولات البسيطة التي يستطيع المقاول تنفيذها بنفسه.
إلا إن أغلب المقاولات الحديثة لا يمكن للمقاول تنفيذها إلا بواسطة إستعانته بالغير، وذلك عبر إجراء ما يعرف بالتعاقد من الباطن، كما في مقاولات البناء الكبرى، أو على أقل تقدير يستعان بهؤلاء على صورة مساعدين للمقاول الأصلي.
أولا: مفھوم عقد المقاولة من الباطن في ضوء القانون المدني المصري:
في عقد المقاولة من الباطن يقوم المقاول الأصلي بالإستعانة بمقاولين آخرين من أجل تنفيذ أعمال المقاولة التي إلتزم بها في العقد الأساسي، فينفذ المقاول من الباطن هذه الأعمال على نحو مستقل بعيدا عن إشراف المقاول الأصلي وتوجيهه، وقد بينت ذلك المادة (661) من القانون المدني بنصها علي أنه:
"(1) يجوز للمقاول أن يكل تنفيذ العمل فى جملته أو فى جزء منه إلى مقاول من الباطن، إذا لم يمنعه من ذلك شرط فى العقد، أو لم تكن طبيعة العمل تفترض الإعتماد على كفايته الشخصية.
(2) ولكنه يبقى فى هذه الحالة مسئولا عن المقاول من الباطن قبل رب العمل"
ومع تطور أساليب الفن المعماري وإلزامية التخصص المهني بمجال محدد، أصبح للمقاولات الفرعية مكانة بارزة في يومنا، فقد نشأت مقاولات متخصصة في مجالات عدة ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، أعمال البناء والترميم والهدم والتصميم والديكور وأعمال التركيبات الكهربائية والإلكترونية والحجارة ..الخ، ومقاولات أخرى تختص بإنجاز الجسور والأنفـاق، وقد عرفت هذه المقاولات ب "التعاقد من الباطـن"، ويتم اللجوء إلى هذا النوع من التعاقد في حالتين:
الحالة الأولى:
تتمثل في عدم توفر الإمكانيات الكافية للمقاول الأصلي سواء الفنية أو المادية وحاجته لإنجاز المشروع لضخامته، مما يؤدي إلى حاجته لمزيد من الإمكانيات كي يتمكن من تنفيذ المشروع، بالنظر إلى محدودية وسائله، بالنسبة لحجم المشروع عندما يكون ضخما.
الحالة الثانية:
وهي حالة عدم توفر الوقت اللازم أمام المقاول الأصلي لإنجاز المشروع، لإمكانية تسليمه في المدة المتفق عليها في عقد المقاولة الأصلي، فيلجأ الى التعاقد من الباطن بهدف تسليم المشروع في المواعيد المتفق عليها، تجنبا لمخالفة إلتزاماته العقدية، فتتم في هاتين الحالتين الإستعانة بمقاولين آخرين متخصصين لتسريع تنفيذ العمل وتسليمه في المدة المحددة وبالتقنيات المطلوبة.
ثانيا: تمييز عقد المقاولة من الباطن عن غيره من الأعمال المشابهة:
أ-تعريف المقاولة من الباطن:
التعاقد من الباطن في الأصل خروج عن المبدأ القائل بأن أطراف العقد هم المعنيين الوحيدين بتنفيذ العقد، وعليهم تنفيذ العقد بأنفسهم، فإذا كان المقاول الأساسي ملزم بتنفيذ الأعمال المتفق عليها مع صاحب المشروع، فإن ذلك لا يعني حتما تنفيذه لهذه الأعمال بشكل شخصي، إلا إذا كان التعاقد معه قد تم لإعتبارات شخصية أو قد تم التصريح بذلك صـــــراحة في العقد، لذلك يلجأ المقاول الأصلي إلى ما يعرف بالتعاقد من الباطن، كون ذلك يشكل أحد ضروريات العمل.
كما وأنه يعتبر من الميزات الأساسية لعقد المقاولة تخويل المقاول عدة طرق لتنفيذ إلتزاماته، فيتعاقد هذا الأخير مع شخص آخر من الباطن (المقاول من الباطن)، من أجل تنفيذ كل الإلتزامات الملقاة على عاتقه أوبعضها في إطار عقد المقاولة من الباطن، بالإضافة لأنه يكون بإمكانه إنابة أو توكيل شخص آخر في إتمام بعض الأعمال، ولاسيما العمال التابعين له عبر إبرام عقود العمل على سبيل المثال، لذلك قد يتشابه "عقد المقاولة من الباطن" مع بعض التصرفات، كالتنازل عن عقد المقاولة، وعقود العمل، والوكالة لذلك كان من الضروري، تمييز تلك التصرفات القانونية عن عقد المقاولة من الباطن.
ب-التمييز بين "المقاولة من الباطن" و"التنازل عن المقاولـة":
قد يقوم مقاول البناء الأصلي بالتعاقد مع مقاول من الباطن لتنفيذ جزء من المشروع المكلف بإنجازه، كما قد يتفق معه على تنفيذ كامل أعمال المشروع أو الصفقة، وهذا ما يعبر بالفعل عن عقد مقاولة من الباطن، إلا أن تكليف المقاول من الباطن بتنفيذ كامل مشروع البناء موضوع عقد المقاولة، قد يثير بعض اللبس، في مدى إعتبار التصرف تعاقد من الباطن أم تنازل عن المقاولة.
وتتحقق حالة "التنازل" عندما يتنازل المقاول للغير عن جميع عقد المقاولة بما يشتمل عليه من حقوق، فيحل المقاول "المتنازل له" مكان المتنازل في عقد المقاولة، وذلك بخصوص كامل الحقوق والإلتزامات الناجمة عن عقد المقاولة بإتفاق بينهما، فيصبح الأخير هو المسؤول تجاه رب العمل.
ويجب عندئذ تطبيق قواعد حوالة الحق فيمـا يتعلق بنقـل الإلتزامـات النـاجمـة عن العقد، وتطبيقا لذلك يتوجب قبول صاحب المشروع بالتنازل بصفته مدينا حتى يصبح التنازل ساريا في حقه، طبقا للقواعـد المقررة في حوالـة الـدين، لأن إبلاغـه بـذلك التنازل غير كـاف في نقـل الإلتزامـات، وذلك وفقـا لإنتقال دين المدين بشرط موافقة الدائن حيث ينتقل الإلتزام بجميع خصائصه ومقوماته للمتنازل له، أما بخصوص التمييز بين قيام المقاول بالتنازل عن المقاولة أو إجراء المقاولة من الباطن، ينبغي ملاحظة النقاط التالية:
1-إن عقد المقاولة من الباطن كما أسلفنا، هو عقد مستقل يتفرع عن عقد المقاولة الأصلي، كما أنه لا يؤدي إلى إلغاء عقد المقاولة الأصلي، بل تبقى العلاقة التعاقدية قائمة بين المقاول الأصلي وصاحب العمل.
2-في حالة التنازل عن المقاولة، تنتفي العلاقة بين صاحب العمل والمقاول الأصلي، وتحل محلها علاقة جديدة تربط المقاول المتنازل له بصاحب العمل، متى تم أبلاغ ذلك الأخير بالتنازل وأقره، فتصبح علاقة المقاول المتنازل له برب العمل علاقة مباشرة، خلافا لعلاقته بالمقاول من الباطن، والتي تبقى علاقة غير مباشرة.
3-إن التعاقد من الباطن لا يؤدي إلى نقل حقوق وإلتزامات المقاول الأصلي إلى المقاول من الباطن، ويبقى كل طرف ملتزما بما ينجم عن عقده، أما بالنسبة لضمان إنجاز المشروع، فإن مقاول الباطن لا يلتزم بالضمان، أي ما يعرف بالضمان العشري التي تبدأ مدته من تاريخ إستلام الأعمال والتي نصت عليه المادة (651) من القانون المدني المصري، في حين لا خلاف في خضوع المقاول المتنازل له لأحكام هذا الضمان كون العقد إنتقل بكامله له، كما لا يعد المقاول المتنازل مسئولا عن المقاول المتنازل له تجاه صاحب المشروع، خلافا لما هو مقرر في المقاولة من الباطن، حيث يبقى المقاول الأصلي مسئولا تجاه صاحب المشروع عن المقاول من الباطن.
4-ويبقى أهم معيار يستخدمه الفقه في التمييز بين المقاولة من الباطن والتنازل عن المقاولة، هو معيار "إرادة الأطراف"، فإذا كانت إرادة المقاول الأصلي تتجه نحو الخروج من العلاقة التعاقدية ليحل محله مقاول آخر في تنفيذ المشروع، فيعد التصرف في هذه الحالة تنازلا عن المقاولة، أما إذا إتجهت إرادة المقاول الأصلي إلى الحفاظ على علاقته التعاقدية بصاحب العمل فإنه يعهد لمقاول من الباطن بإتمام بعض الأعمال، دون التنازل بشكل تام عن عقد المقاولة الأصلي.
ج- التمييز بين المقاولة من الباطن وعقد العمل:
كما سلف البيان فإن المقاول من أجل تنفيذ إلتزاماته الناجمة عن عقد المقاولة، يبرم عدة عقود في آن واحد من أجل تنفيذ تلك الإلتزامات، وأهم عقدين يبرمهما المقـاول، عقد المقاولة من الباطن وعقد العمل، ولتوضيح الفارق بين العقدين المذكورين، يتعين تحديد أهم ما يميز كل منهما عن الآخر:
أ-وهو أن عقد العمل يتكون من عناصر أساسية تتمثل في: العمل، الأجر، التبعية، الزمن.
ب-أما عناصر عقد المقاولة من الباطن الأساسية فهي: العمل، عقد مقاولة سابق، الأجر، الزمن.
وبذلك يتضح تخلف عنصر التبعية من عناصر عقد المقاولة من الباطن، فمقاول الباطن لا يعمل بتبعية للمقاول الأصلي، بل يؤدي إلتزاماته بكل إستقلالية، وبالمقابل فإن العامل يؤدي إلتزاماته في ظل تبعية قانونية لصاحب العمل، تتمثل في سلطة الرقابة والإشراف والتوجيه للعامل في أدائه للعمل، ويلتزم هذا الأخير بالطاعة لهذه الأوامر والتعليمات التي يصدرها صاحب العمل، تحقيقا لعلاقة المتبوع بالتابع، و يتضح من ذلك أن نفس العمل يمكن إنجازه عن طريق شكلين من العقود، عقد "العمل" الذي يفترض فيه إنجاز عمل مقابل أجر وبتبعية تامة للمقاول الأصلي، أو عقد "مقاولة من الباطن" التي يفترض تنفيذها مقابل أجر ولكن بصفة مستقلة، وفي كلا الحالتين يجب تدخل شخص آخر ينفذ العمل لحساب صاحبه.
وبالتالي، فإن غياب رابطة التبعية في العلاقة بين المقاول الأصلي والمقاول من الباطن وإستقلالية هذا الأخير، لا يعني غياب أية رقابة عليه، بل يحق للمقاول الأصلي رقابة المقاول الفرعي في تنفيذ ما إتفقا عليه، لأن المقاول الأصلي ملزم بإنجاز المشروع بمواصفات فنية محددة، وهذا ما يفسر لجوء بعض المقاولين الأصلين إلى تحرير ما يسمى ب "دفتر الشروط" للمقاول من الباطن، ولما يتمتع به المقاول الأصلي من سلطة في تنظيم العمل، كما أن المشرع جعل المقاول الأصلي مسئولا عن المقاول من الباطن تجاه صاحب العمل.
د- التمييز بين المقاولة من الباطن وعقد البيع:
قد يظن البعض أن الفارق بين كلا العقدين واضح جلي، ولكن سرعان ما يزول هذا الظن في حال التزام المقاول بتوريد المواد أو الخامات التي يتم الإستصناع منها وإستخدامها في عمليات البناء، فهنا يمكننا القول أننا بصدد بيع حيث أن المقاول يعد بمثابة المنتج أو المصنع لتلك المواد أو الخامات، وبالتالي ينبغي لنا التفرقة بشأن التكييف القانوني في حالة التوريد المشار إليها.